الارشيف / عالم الفن والمشاهير

مذكرات هاني شنودة : رحلة عبقري مصري

باسل النجار = الرياض في الجمعة 10 مارس 2023 12:01 صباحاً - منقول

ايهاب الملاح يكتب:

مذكرات هاني شنودة.. رحلة عبقري مصري

انقضى زمن ليس قصيرا منذ قرأت كتابًا حلوًا سلسًا ينضح بالمحبة للفن والناس، ويخلو من عكارات تضخم الذات ونتوءات النميمة الجارحة.

جاءني كتاب مذكرات الموسيقار العظيم المعجون بالفن والموهبة والرغبة الحارقة في إسعاد الناس وتخفيف همومهم وآلامهم “هاني شنودة” كي يبدِّد الكثير مما ران على القلب والروح في الأشهر الأخيرة.. سنة 2020 هذه سيؤرخ بها في حياة كل من عاصرها (أو من ظل على قيد الحياة إذا ابتغينا الدقة!) كعلامة فاصلة بين ما قبل وما بعد.. (المهم، ما علينا!)

هذا كتاب جميل فيه كمية من السماحة والحنو والإصرار على العمل الدؤوب والإخلاص للفن والموسيقى ليس لها مثيل.

كتاب وأنت تقرأ كل سطر فيه لا تملك إلا أن تحب هذا “المصري الأصيل” ابن المصريين، ومؤسس فرقة (المصريين)! وأن تغضب معه لمن يناديه بالخواجة فيشعر بالإهانة ويقول لنفسه لا لست بخواجة؛ فأنا مصري وأُبدع موسيقى مصرية، وإن كانت روافدها متعددة مصرية وغير مصرية! وما زال حتى الآن يرى هذا التوصيف انتقاصًا من مصريته وطمسًا لهويته!

ترى مشاهد تتحرك بإيقاع مضبوط وكأنها مقطوعة عبقرية من مقطوعاته الجميلة؛ مشهد يظهر فيه في مواجهة نجيب محفوظ يستفزه تعليق للأديب الكبير فيرد بحدة واندفاع الفدائي عن اتجاهه الموسيقي الجديد، وبعد سنوات يكتشف أن تعليق الأستاذ كان عبقريا رغم الاختلاف والتوجس في الظن! مشهد آخر نرى فيه جانبا من تفاصيل وحياة العبقري صلاح جاهين؛ من سادات الإبداع بلا منازع لكنه كان إنسانا رقيقا وحساسا تؤلمه الكلمة ويقتله المساس بالكرامة، فنتألم نحن أيضا حينما يروي شنودة واقعة إحالته للتحقيق في (الأهرام) بسبب كاريكاتير نشره عن ابنه بهاء في مساحته المخصوصة!

هذا الكتاب الذي اتخذ شكل حوار مطول أجراه الصحفي النابه مصطفى حمدي مع واحدٍ من أصحاب التجارب الرفيعة؛ رفيعة المقام فعلا وعالية القيمة في تاريخنا الموسيقي المعاصر؛ هو لم يُكتب كمذكرات في الأساس، إنما استطاع مؤلفه بذكاء وحنكة أن يحيل المادة المهمة التي تجمعت تحت يديه من جراء المقابلات والأحاديث والحوارات التي جمعته بالموسيقار العبقري هاني شنودة إلى ما أسماه مذكرات هاني شنودة؛ رتبها وأعاد صياغتها في إطار محكم منظم يقوم فيه بدور الراوي المعلق ثم يتيح الفرصة كاملة لصاحب المذكرات أن يتحدث ويفصح ويحلل ويروي ويفضفض بصوته الخالص ونبراته الخاصة وتعبيراته المدهشة

استطاع بأمانة ودقة أن يستخلص منها مراحل ومحطات رئيسية في مسيرة حياته الحافلة والعامرة؛ توقف عند الشخصيات الملهمة والمكتشفة على يديه، حلَّل بذكاء ووعي النقلات الفنية والمراحل التطورية في مسيرة الموسيقار الموهوب؛ تلحينا وتوزيعا، عزفا وغناء، موسيقى تصويرية وتترات درامية وسينمائية وبرامجية..

كما حدد بدقة مجالات إسهاماته التلحينية، وعطاءاته التجديدية؛ واكتشافاته للأصوات التي بقيت وستبقى شاهدة على نقاء الحس وصدق البصيرة وإشعاع الموهبة.

أما من أهم ما يستشفه قارئ الكتاب الذكي الحصيف فهو ذلك الحس الاجتماعي القوي في فكر ورؤية هاني شنودة وهو يبدع ألحانه ويؤلف موسيقاه؛ بداخله فنان مبدع يطمح للعبقرية وإن اتهم بالجنون! (يردد أكثر من مرة عبر صفحات الكتاب مقولة الفيلسوف ثيروندايك إن “الفرق بين العبقري والمجنون هو النجاح” ويعتبرها أحد أهم مفاتيح الحياة والتطور والنجاح في مسيرته)

خيط رفيع للغاية يفصل بين البساطة الخادعة والسلاسة الممتعة وبين العمق الاجتماعي الواعي تماما بضرورة تمثيل هموم وآلام وآمال وطموحات هؤلاء الناس الذين يبدع لهم ويستلهمهم ويتوجه إليهم؛ ولا يغيبون عنه لحظة.

ولعل في قصة تلحينه لأغنية “زحمة يا دنيا زحمة” لأحمد عدوية ما يوضح هذا الحس الرفيع؛ يتذكر هاني شنودة يوم التسجيل، قائلًا: “ذهبنا لنجري بروفة في (استوديو 35) بالإذاعة. كنا نعزف مقاطع من الأغنية وعدوية يغنِّي، بينما موظفو الإذاعة يتجمهرون في غرفة الكنترول؛ ليتابعوا ما يولد بالداخل وكأنه شيء غريب وعجيب، وهو كذلك فعلاً؛ فقد كانت المرة الأولى التي يشارك فيها البيز جيتار والدرامز في عزف أغنية شعبية، ومن بعدها وكل الأغاني الشعبية تستخدم هاتين الآلتَين”.

ويتابع شنودة: “أنا شُفت نجاح (زحمة يا دنيا) وهيّ بتتسجل من قبل أن تُطرح بالأسواق، وبعد أن حققت مبيعات خرافية جاءني عاطف منتصر، كعادته، وقال لي: كان عندك حق يا هاني… أنت عملت حاجة ما حصلتش في تاريخ الأغنية الشعبية المصرية”.

ثم لنختتم بهذا التعليق المثير:

“المؤكد أن تأثير زحمة يا دنيا كان أكبر من كونه شريط كاسيت حقق أعلى مبيعات في مسيرة عدوية، لقد تحولت الأغنية إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية، واستخدمها الناس كوسيلة للاعتراض على أحوال المرور التي ساءت في عهد الرئيس السادات، مع الزيادة السكانية، والهجرة المتزايدة إلى القاهرة، وغياب الأمن العام في الشارع. كان سائقو التاكسي يرفعون صوت الأغنية في (كاسيتات) سياراتهم وهم يمرون أمام عساكر المرور والضباط في الإشارات، ويستفزونهم وهم يغنون (مولد وصاحبه غايب)، الجملة في حد ذاتها كانت أشبه بصفعة على وجه صاحب المولد الغايب أو المتغيب عن أداء دوره، ولهذا وبعد أسبوعين فقط من طرح الشريط بالأسواق وصلت تقارير للرئيس السادات بما يحدث في الشارع، فأعلن إعادة الانضباط للشارع المصري، وأمر بنزول حملات مرورية في كل شوارع العاصمة لضبط حركة المرور، وإيقاف السائقين المخالفين.. كان السادات بهذه القرارات يعلن على الملأ أن المولد صاحبه حاضر ولم يغب، كأنه يرد على صرخة عدوية التي هزت الرأي العام”. (ص 73، 74)

يذكرني هاني شنودة بكبار المبدعين الذين يحملون بداخلهم حسا نقديا رفيعا وأصيلا أصدق من مائة ناقد محترف! كل مبدع أصيل بداخله ناقد كبير حقيقي متوارٍ لا يظهر إلا عند الضرورة ليكشف جمالية لحن رائع أو يفسر طبيعة صوت غنائي وخصوصيته (شوف مقارنته بين لوني أداء عمرو دياب ومحمد منير في بدايات كل منهما هذه المقارنة التحليلية لا تصدر إلا عن مبدع وناقد كبير جدا وممتلك تماما ناصية المعرفة التي يتقنها موهبة ودراسة وممارسة)

أو وهو مثلا يشرح الفكرة التي بنى عليها تأليفه لتتر فيلم (المشبوه)؛ وموسيقاه التصويرية، ما هذا بهاوٍ موهوب فقط، إنه محترف يتكلم بالموسيقى ويعبر بها ويتخذها أداة ووسيلة للحديث والإقناع بكل ما تعنيه الكلمة؛ اسمع معي وهو يتحدث قائلا:

“عندما قرأت السيناريو وجدته متخما بالتساؤلات: هل سينجح الضابط (فاروق الفيشاوي) في القبض على اللص (عادل إمام)؟ هل ستكتمل قصة حبه مع (سعاد حسني)؟ هل سيتوب توبة نصوحا وصادقة؟ هل سيعود للسرقة مرة أخرى؟

هذه الأسئلة ترجمتها في مخي إلى أسئلة بالموسيقى، خلقت تيمة مبنية على حالة الحيرة، يظن البعض أنني أتكلم بالموسيقى، وأنا أفعل ذلك في الحقيقة، الموسيقى تعبير ولغة، مفاتيح البيانو مثل الحروف تكون الكلمات، والإحساس بهذه الكلمات يتشكل ويكتمل بصياغة جمل كاملة، ولهذا وضعت تيمة أولها سؤال وآخرها حيرة كأنني أقول على لسان البطل: أعمل إيه يا ربي؟!

لتتأكد من عبقرية هذه الرؤية أعد الاستماع إلى موسيقى هاني شنودة في فيلم (المشبوه) في ضوء هذا التحليل:

بدأت الجملة بسؤال، وتصاعد السؤال مع تصاعد حالة الحيرة، ولهذا تصاعدت النغمة أكثر، ثم هدأت مرة أخرى في النهاية، وهكذا خلقت من التيمة تفريعات مختلفة تناسب الحالة، مرة بإيقاع هادئ في المشاهد الدرامية، ومرة بإيقاع أسرع في مشاهد الحركة”.

كنت أحب هاني شنودة وأحب موسيقاه.. الآن أحببته أكثر وأكثر، وأزعم أنني أعدت اكتشاف موسيقاه الرائعة بعين جديدة بعد قراءتي لهذا الكتاب الممتع الجميل الذي يمارس فعل السحر كمن يمسح بزيت مقدس على الجسد فيزول ما به من آلام وإرهاق وركام الأيام المضني بلا راحة ولا هدنة!

وكما بدأت هذا المقال باستشهادي بإهدائه العظيم أختمه أيضا بتكرار هذا الإهداء الذي يخايلني مخايلة عظيمة؛

“ولكنني مصمم على أن من خلقني لإسعاد الناس بقدرته اللا محدودة سأختم حياتي بإسعاد الناس”.. (هاني شنودة).

 




Advertisements
Advertisements